هل تقدم جامعاتنا أكثر من إحتفالات التخرج الصاخبة؟
في سبتمبر مـِنْ كُلِ عام نِحْتفلُ بـِتَخْرِيج دُفَعات جديدة من الخريجين من مختلف الكليات.و كل مناسبة يُصَاحبها كثيرٌ من البَهْرجة واستعراض غير عادي للإثارة، حيث تُفرِطُ الجامعات في الإنفاق على الحفلات مـِمَا يزيد مـِنْ الأعباء الإقتصادية عَلى كَاهـِل الأسر المُثَقَلةِ أصلاً بأزمة مَعيشـِية غير مسبوقة. فضلاً عَن ْهذا التَكَلف المادى الغير مبرر، فإن كل هذه الاحتفالات السنوية تغمرنا جميعا بالسعادة، وتُحْيـِي في نفوسنا الأمل بمستقبلٍ أفضل. إضافة إلى ذلك، إن مَشَاهـِد الفرحة والابتسامات على وُجُوه الخريجين وأسرهم، ورضَاهُم عن كل ما بذلوه منْ جهدٍ جبَّارٍ و تضحيات من أجل حياة ٍكَرِيمة لأولادهم يبعث على الفخر والاعتزاز.
من ناحية الأخرى فإن الأعداد الهائلة من الخريجين، والتي تزداد في كل سنة، يعتبرها البعض دليلا واضحا على ما حققنا منْ إنجازات في مجال التعليم علي مدار العقدين الماضيين.
فلا شك أن أعداد الطلاب المُقَيدين في المراحل التعليمية المختلفة تَزايَدَت بـِشكل مطرد ومتواصل، مـِما سَاعدَ في تَقلِيل نسبة الأمية بين طبقة الشباب في المجتمع، وأثّر بالإيجاب علي الوعي العام، وأرفع من الإهتمام المجتمعي بالتعليم. هذا ونحن لا نَغُض الطَرف عن الكم الهائل من الصعوبات التي تواجهها التّعليم؛ منها ماهو بسَّبب سُوء إدارة وفشل في التَوجـِيه والتَخطـِيط، ومنها ماهو بسبب خروج الكيانات التعليمية الخاصة من سلطات وزارة التربية والتعليم والاعتداء على صلاحياتها الإدارية نتيجةً لِتدَنـِى مستوى الكفاءة الإدارية، ومنها ما يرجع وجودها إلى الإمْكانـِيات المالية المتواضعة للدولة، و قِلة الخـِبْرات التربوية، وغِيَاب السِّيَادَة القانونية للدولة. كل هذه العوامل المتَدَاخـِلة و المُعقَدَة تمثل حجر عثرة أمام تطور نظام تعليمي كُفء.
التعليم بجميع مجالاتها، النظرية والتطبيقية، و تخصصاتها المختلفة تمثل أهم عامل من عوامل تقدم الأمم وتطورهم إذا أُسِسَت على دَعائـِم و ركائز قوية، وسـِياسَات مَدرُوسَة تخْدُمُ أهداف محدده و معروفة.
التعليم هي الرافعة التي تُبْنى عليها جميع وسائل التنمية والتقدم، فلا صناعة من غير تعليم تهيئ الشباب للعمل الشّاق بمهارات عالية، و تُدرِبُهم علي التَّحَمُل. ولا زراعة ولاصحة بدون علمٍ يُنَمـِي روح المثابرة والاجتهاد في وعي النشئ الجديد. ولا سياسةٍ بَناءَة من دون تعليم تَغـِرسُ روحَ التَّسَامُح وحرية الرأي في نفوس المواطنين، وتشجع على الاستماع إلى الرأي المخالف بدون تَعصُبٍ أو تجريح.
ولذلك لابد للتعليم الوطني أن تكون لها قواعد ثابتة، تنطلق منها في رسالتها. وهذه القواعد تتمثل في المناهج الدراسية، والتي يجب أن تنبثق من تقاليد المجتمع وقـِيَمِه الدِينِيَة والسُلُوكيَات الاخْلَاقيَة السَلِيمة التي تَوارَثَتها الاَجْيال. هذه التقاليد الاجتماعية يجب ان تحافظ عليها الدولة من الاندثار من خِلَال التَأكُد أن تُنـقَل الي الاجيال القادمة عبر وسائل التعليم والتدريب المختلفة.
ومن القواعد الأساسية للتعِليم أن تُعرِّف فى المناهج خَصَائِص و مواصفات الفرد الذي نأمل أن نُخَرجَهُ من خلال هذا التعليم. كيف يفكر وماهي أولوياته في الحياة؟ ماهي القدرات الإنتاجية و الإبداعية التي يمتلكها؟ و كيف نستطيع أن نُصَمـمَ مناهج التعليم لتقوية وتنمية هذه القدرات؟. كيف تكون علاقة هذا الفرد بمحيطه البشري و البيئي؟ هل هي علاقة تكامل وتعاون ام تصادم و تنافر؟ كيف يتفاعل الفرد الناشئ مع مُحِيطِ بلاده الإقليمي؟ وكيف يفهم مصالح بلاده وأمنه الخارجي؟، وما هو المطلوب منه ليشارك بإيجابية في تحقيق هذه المصالح ومحافظة عليها؟. هذه الأسئلة وغيرها تجيب عنها استراتيجية الدولة للتعليم وجَودَة المَناهـِج المَوجُودة.. إن كان لدي الدولة استراتيجية واهداف للتعليم أصلا..
و أيضا من القواعد التي يتوجب على الدولة أن تَغرِسَ في وجدان النشئ اليافع عبر التعليم، هي ان تكون عندهم دراية كامـِلة لِمَا لِوَطَنِهم من إمْكَانِياتٍ إقتِصَادِية، وثروات طبيعية، وعقول بشرية مدربة يمكن استغلالها في بناء الوطن ولإحداث نهضة تنموية شاملة، لتستطيع الدولة أن تقدم جميع وسائل الرخاء و الرفاهية للمواطنين.
بعد هذا التعريف المخْتَصَر لِأَهْميَة التعليم ودورها المحوري في بناء الأمه، من الواجب أن نحاول تقييم ما أُنْجـِز حتي الآن في مجال تأسيس التعليم، تاسيساً منهجيا، يساهم و يؤثر في حيوية المجتمع، تأسيساً على بنية سليمة يستطيع أن يُحدِثَ تغييرا جوهريا في تفكير وسلوكيات الأجيال القادمة.
ولنا أن نطرح هذا السؤال: ماذا وراء كل هذا الاحتفالات السنوية الصاخبة و الاعداد الهائلة من الخريجين الذين يملؤون قاعات فنادق العاصمة مع كل ما يصاحبها من بهرجة وخطب استعراضية رنانة لوجهاء المجتمع والمسؤولين الحكوميين و ملاك هذه الجامعات.
هل عندنا فعلا نظام تعليمي مهيأ بشكل علمي و قادر علي إنتاج مواطن له الصفات التي أشرنا إليها آنفا. وهل كل هؤلاء الشباب الذين يتخرجون كل سنة بآلاف مؤهلين ان يدخلوا الي سوق العمل و يشاركوا بفاعلية كبيرة في تنمية الاقتصاد؟، وهل سوق العمل وأدواته الغير تقليدية قادرة علي الاستيعاب هذه الآلاف من الخريجين الجدد؟.
نَحنُ نعْرفُ أن عَدد الجَامَعات تَضَاعَف بشكل مطرد في السنوات الأخيرة، وأن معظم هذه الجامعات إنما هي دكاكين تجارية للاستـِرزَاق والتَرَبح، ولا تتمتع بالحد الأدنى من مواصَفَات الجَودَة العلمية والتَنظـِيم الإِدَاري، ومع ذلك فإن هذه الجَامَعات تصب أعداد كبيرة من الشباب إلى سوق العمل. علماً ان هؤلاء الخريجين ليس لديهم التدريب والتطوير الذاتي المناسب للبيئة المحلية، وأن معظم ما تعلموا في هذه الجامعات ليس لها علاقة بالواقع الذي يعيشونه.
إضافة ً إلى ذلك فإن تدني جودة المادة التعليمية وعدم وجود برامج تدريبية علي الحِرَف المهنية المطلوبة للطالب الجامعي أدت إلى حُدُوث تَبايُن كَبِير بَينَ ما ينبغي أن يكْتَسَبَ الخَرِيجُ مِنْ علم وتدريب، لكي يتمكن من التعامل مع الواقع بمرونة، و لكى يقدر على ابتكار الأفكار، ويُنـَمِي من قدرته على إبداع حلول فعَّالة للصعوبات التي من الممكن أن تواجهه، وبين ما اكتسبه فِعلاً من سنوات دراسته في هذه الجامعات.
سأترك الإجابة عن هذه الأسئلة للقارئ الكريم و أستعرض هنا بعض المعوقات التي تحول دون إيجاد نظام تعليمي فَعَّال في البلاد، والتي تعوق انتقال نظامنا التعليمي من البدائية في التخطيط والتنفيذ، ومن الفوضوية في الأَداء والمُمَارسَة، الي نظام مُتَكَامِل مُنْضَبط ومتَنَاسِق له رسَالة واضِحِة، جَوهَرُها الارتقاء بالتعليم إلى مصاف الأنظمة الناجحة في العالم، وتَقُودُها سياسة واضحة المعالم والأهداف، و تستمد روحها من العقيدة الإسلامية والتقاليد الخاصة بالمجتمع. ومن هذه العقبات ما يلي:
أهم مشكلة التي تأتي في رأس القائمة هي غياب الإهتمام اللائق بالمعلم و عدم إعطائه حقه الأساسي في الرعاية الكريمة. إن الدولة لم تستثمر في تدريب و تجهيز المعلم بالقدر المطلوب، ولم تقدم له الوسائل التي كان من الممكن أن تُسَاعـِدَه على القـِيَامَ بِمُهمتـِه علي أفْضَل وجه. حيث الأجور ضئيلة و متدنية جدا ولا يغطي ما يَتَقاضَاه المُعَلِم في الشهر إحتياجات يوم واحد لأسرة صغيرة.
أَصبحت نتيجة هذا الإهمال وبالًا على مهنة التعليم، حيث أصبح المعلم، الذي هو رمز العلم، ذات مكانة مادية ومعنوية متدنية ٍ في المجتمع، و صورته الإجتماعية أضحت هزيلة وغير جاذبة للشّباب. المحصلة النهائية هي أن التدريس تحول الى مهنة منفرة وغير جذابة كوسيلة مجزية للعمل مع كثرة وفرتها، واتجه المتفوقون علميا الي البحث عن وظائف أخرى لها عائد مادي أكثر، ومكانة مرموقة، مع صعوبة الحصول عليها.
ثانيا، كما سبقت الإشارة من قبل، فإن التعليم تحول من رسالة سامية يعتمد عليها مستقبل الوطن والأجيال القادمة إلى سلعة رابحة يتحكم فيها العرض والطلب. وهذه شجعت من ليس عندهم خبرة في مجال التعليم، ولا رؤية تنموية لديهم لدور العلم في مكانه ومستقبل الوطن، ولكن يحركهم الطمع فى جمع المال، ويحفزهم التنافس في الانضمام إلى علية القوم، والطبقة الراقية ماديا، التي هي تحت التأسيس حاليا.
وللأسف الهبوط المستمر لجودة التعليم الحكومي شجَّع كثيرا من الآباء أن يبعثوا أولادهم إلى المدارس الخاصة مع ضآلة الفروق بينهم وبين المدارس الحكومية من حيث المضمون والمحتوى التعليمي، والخبرة الإدارية، ومستوى تدريب المدرسين. الحقيقة هي أن التعليم الخاص تشترك مع التعليم الحكومي في جميع المشاكل الجوهرية، ولكنها نجحت أن تلمع صورتها بحملة دعائية مستمرة عبر جميع وسائل الإعلام التقليدية والعصرية. ولذلك نجحت في رسم صورة ذهنية إيجابية لدي المواطن البسيط الذي يبحث عن فرصة لتعليم جيد لأبنائه. الجدير بالذكر أنه حتى في المدارس المستقلة، هناك استثناءات قليلة نجحت فعلا فى إحداث تغيير حقيقي ملموس، مع تواضعه وسط هذا الكم الهائل من الغثاء، وتمكنوا من الارتقاء بمستوى التنظيم المهني والوعي الثقافي لطلابهم.
من الناحية الإجتماعية ظاهرة المدارس الخاصة ساهمت في خلق طبقات اجتماعية وتفاوت كبير بين مكونات الشعب، الذين كانوا بالأمس القريب نسيج إجتماعي واحد، متماسك ومتضامن. حيث الهوة تتسع بين من يملكون الاختيار و يستفيدون من الوضع الراهن،وبين من ليس لديهم أي خيار ويزدادون ضنكا في العيش، وغضبا على الوضع، وخوفا من المستقبل. إن رسومات الشهرية الفلكية لبعض المدارس والجامعات الخاصة مثال آخر على فقدان التوازن بين شرائح المجتمع، وتنبئ بمستقبل يغيّم عليه التناحر وعدم الاستقرار.
هذه الشلة التي أدمنت استنزاف المواطنين ماديا، وحَرَّفت هدف التعليم المصيري للمجتمع، أسست لنفسها كيانات إدارية موازية لهيئات الدولة المنوطة بها قيادة سياسة التعليم ورسم أهدافها، ليحافظوا على مصالحهم الخاصة من المراقبة والمحاسبة، و ليفلتوا من المساءلة القانونية إذا أخطأوا و أساءوا التصرف. لا أحد يُنكر أن هناك قلة قليلة من المناضلين الذين قضوا سنوات عديدة من أعمارهم في التعليم، ولهم مساهمات غير عادية في تخريج أجيال متعاقبة من خيرة شباب الوطن، وأكثرهم انتاجا وانجازا في مختلف المجالات.
ولا يستطيع أي عاقل أن يغفل عن دور التعليم الخاص الإيجابي ومساهمته في التنمية، ولكن هذا يكون عندما تكون جزءا في المنظومة الوطنية، وتعمل لتكمل ما لم تقدر الدولة عن الإهتمام به بالشكل المطلوب، ولكن إذا تحولت المدارس والجامعات الخاصة إلى كنتونات تجارية تقوض سلطة الدولة فهذا وضع شاذ ينبغي أن تعمل الإدارة المختصة إزالته، وإعادة الأمور إلى الوضع الطبيعي.
حان الوقت لإعادة النظر في المنظومة التربوية والتعليمية قبل فوات الاوان. إذا ترك الحبل على الغارب وسُمح لأباطرة التعليم الخاص أن تفرض مصالحها الفئوية على الوطن، فإن النتيجة الحتمية ستكون عودة إلى الوراء، وتدميرا لروح ومكانة وهدف التعليم الجوهري. لابد من أن تقوم الدولة بواجبها الدستوري في تطوير تعليم جيد لكل المواطنين، وتنظيم التعليم الخاص بما يتوافق مع مصلحة الوطن ومستقبل ابنائه، وتماسك شعبه، ومما يشجع على التنافس الشريف، و اكتشاف المواهب.
Comments
Post a Comment
Waad ku mahadsan tahay in aad akhriday maqaalka.